للكلام بقية/ عزاء مندائي بهيج

رأي حر/تحسين الزركاني

لا يعني الفرح في الاحزان شماتة بقدر ما نشاهد او نسمع من المعزين مواقف او كلمات مواساة تساعد ذوي الفقيد على تحمل الم المصاب.

كم سعى القادمون من وراء الحدود منذ توليهم زمام الأمور في البلاد على شق العصا ووحدة الصف التي امتاز بها العراقيون بامتداد تاريخهم، ذلك التاريخ الذي جعل بلاد ما بين النهرين قبلة تستهوي كل حالم، لتكون منبعا للحضارات ومنارا للأمم.

حتى الامس القريب لم اكن او أحدا من أبناء جيلي نعي في الطفولة والصبا وبدايات الشباب ما تعني الأديان او القوميات ولا الطوائف، تغربت في الخامسة عشر من العمر بعيدا عن أحضان الوالدين لاستكمل دراسة الموسيقى في معهد الفنون الجميلة بالبصرة، أستاذة وطلبة من المسيحيين والمندائيين والمسلمين من الطائفتين، لم يفكر أحدا فينا عن سؤال الاخر الى أي الأديان تنتمي وما منها تعتنق، كنا ناكل في صحن واحد ونشرب من ذات القدح.

لم نفتش عن معاني الأسماء والى أي المفاهيم تشير حتى تخرجنا لتفرض علينا خدمة العلم، خدمت العسكرية في الديوانية والموصل والانبار ومدينة الحبانية وبغداد، كنا في الفصيل الواحد من عدة مدن واديان وطوائف ومذاهب، يواسي بعضنا الاخر ويدافع احدنا عن الاخر لاكتشف بعد ان تسرحت ان العريف منهل سني ورئيس العرفاء حسين شيعي وعريف فصيل اخر ايزيدي واخر مندائي ومسيحي، لم اك اعرف معنى البهائي او الكاكئي حتى سافرت الى عمان عام ١٩٩٤، كان صاحب العمل يسالني عن معاني تلك الصفات، لم يكن للأنترنيت حينها حظوة، فذهبت بحثا عن المصادر في المكتبات، وايقنت حينها مما ترك الاولين في مؤلفاتهم ان ما ميز تلك البلاد هذه المسميات التي عرفت في العهد البرلماني بانها المكونات.

بالأمس ذهبت مواسيا لعدد من الاخوة والأصدقاء المندائيين الذين خسروا احد أبنائهم في حادث سير، لعمق علاقتي بهم وجهت الدعوات الى بعض الأصدقاء والزملاء لئلا يشعروا بانهم لوحدهم في هذه المصيبة، خاصة وان عدد الاسر المتبقية منهم بات قليل جدا جراء هجرة غالبيتهم بسبب السياسات المتخبطة خلال العقدين الأخيرين، حين وصلت المعبد وشاهدت عدد المركبات المتوقفة من تقاطع الجسر الى مسافة بعيدة وعلى جانبي الطريق، قلت في نفسي ان الاسر تتنزه في احد الحدائق الواقعة بالقرب من المعبد على نهر الديوانية، كان في استقبالي مع المعزيين أصدقاء من المسلمين الشيعة والسنة يتوزعون على جانبي مدخل المعبد، وحين توغلت الى الداخل استقبلني اخي بالرضاعة بزيه العسكري النظيف معلقا باج اسمه ورتبته على صدره، لم اعد مدركا ان كنت في عزاء صابئي ام مسلم ومن أي المذاهب.

الفقيد مصعب ماجد مطر السيفي

في صالة العزاء رجال دين من المندائيين والمسلمين وزعامات عشائر ووجهاء المدينة، اكاديميون، فنانون، صحافيون، مثقفون، عامة من الناس يؤبنون، ترددت كثيرا في بادئ الامر بالنداء المعروف (رحم الله من اهدى ثواب الفاتحة)، حتى نادى من وصلوا معي فاستترت بهم، صار جلوسي بجوار شيخ كبير يرتدي الزي العربي (الشماغ والعقال)، يبدو انه كان منتبها الى دخولي المتعثر، فسألني هل حضرت عزاء مندائي في السابق، اجبته بخجل ودون تردد (انها المرة الأولى لي)، على الرغم من قربي منهم، فقال اهدأ لما انت مرتبك، قلت له لست مرتبكا بل انا مبتهج وسعيد!، تعجب الرجل منزعجا قال تبتهج بمصابنا؟، اخبرته ليس بالمصاب بهجتي بل سعادتي بما شاهدت من قلوب التفت حول بعضها، لتشكل جسدا واحدا تختلف تسمية أعضائه ليكون بهذا البهاء العظيم.

تيقنت اليوم ان ما تعلمت وقرات وسمعت وشاهدت خلال سني العمر حقيقي وبريقه واقعي وان الامتداد الحقيقي لهذه المدينة الكبيرة يعود الى نحو السبعة آلاف عام، مدينة الموحدين من أبناء يحي بن زكريا اول القوم حتى يومنا لنمنحه لأحفادنا.

اعزيكم بمصابكم بالفقيد احبتي المندائيين واهنئكم بما اكتسبتم بأخلاقكم لتنالوا في قلوبنا تلك المشاعر الإنسانية العظيمة. 

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *